فصل: (مسألة: مد عجوة ودرهم)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: بيع الجنس متفاضلا]

وما حرم فيه التفاضل.. لا يجوز بيع بعضه ببعض حتى يتساويا في الوزن فيما يوزن، والكيل فيما يكال.
وقال بعض الناس: يجوز بيع ما يكال بعضه ببعض حتى يتساويا بالوزن فيما يوزن وزنًا.
وقال مالك: (يجوز بيع ما يكال في البادية دون الحضر بالحزر والتخمين). ووافقنا في الموزونات: أنه لا يجوز.
دليلنا: ما روى جابرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الصبرة بالصبرة لا يدرى مكيلها».
وروى عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذهب بالذهب، تبره وعينه، وزنًا بوزن، والفضة بالفضة، تبرها وعينها، وزنًا بوزن، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، كيلا بكيل، فمن زاد أو استزاد.. فقد أربى». ولم يفرق بين البادية والحضر.
و(التبر من الذهب والفضة): كل ما لم يطبع، والعين منهما ما طبع.
ولأنه مطعوم فقد فيه الكيل في الطرفين، فلم يصح، كما لو كان في الحضر، وفيه احترازٌ من العرايا، فإن الكيل فقد فيها في أحد الطرفين.

.[فرع: بيع الصبرة بالصبرة جزافًا]

وإن تبايعا صبرة طعام بصبرة طعام، وهما لا يعلمان كليهما.. لم يصح البيع؛ لما روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الصبرة من الطعام بالصبرة من الطعام». ولأنهما مجهولتان عندهما حال العقد.
قال المسعودي [في "الإبانة" [ق\225وإن باع صاع حنطة في ذمته، بصاع حنطة في ذمته، فإن كان في البلد أجناس من الحنطة.. لم يصح البيع؛ لأن المعقود عليه مجهول. وإن كان في البلد جنس واحد من الحنطة.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ قال: وهو الأقيس ـ: إن الإطلاق ينصرف إلى ذلك الجنس، ويشترط فيه التقابض قبل التفرق، كما قلنا في النقد.
ومثل هذا حكى الشيخ أبو حامد، عن أبي إسحاق: إذا كان في بلد يصنع أهلها جنسًا من الثياب لا يخلطها غيرها، والبيع والشراء بها، فاشترى منه ثوبًا في ذمته مطلقًا.. فإن الإطلاق ينصرف إلى ذلك الجنس.
والوجه الثاني: لا يصح؛ لأن الحنطة تختلف أنواعها، بخلاف النقد.
وإن قال: بعتك هذه الصبرة بهذه الصبرة مثلا بمثل، أو كيلا بكيل، أو قفيزًا بقفيز، وهما جنس واحد، فإن كيلتا قبل التفرق، فخرجتا متساويتين.. صحَّ البيع؛ لأن التساوي كان موجودًا حال العقد. وإن خرجتا متفاضلتين.. ففيه قولان:
أحدهما: أن البيع باطل، وهو اختيار الشافعي؛ لأنه بيع جنس مطعوم بجنسه متفاضلاً.
والثاني: يصح البيع في القدر الذي تساويا فيه: لأنهما قد شرطا التساوي.
فعلى هذا: يكون الذي نقصت صبرته التي باع بالخيار: بين أن يفسخ البيع؛ لأنه دخل في البيع ليأخذ هذه الصبرة بهذه، وبين أن يقر البيع، ويأخذ بإزاء صبرته الناقصة من صبرة الآخر.
وإن تقابضا الصبرتين جزافًا، ثم تفرقا.. ففيه وجهان، حكاهما في "الإبانة" [ق\231]:
أحدهما: أن البيع يبطل لوجود التفرق قبل القبض الصحيح.
والثاني: يصح؛ لوجود القبض مشاهدة.
وإن باعه صبرة حنطة بصبرة شعير، ولم يشرطا الكيل.. صح البيع، ويشترط فيهما القبض قبل التفرق، وسواء خرجتا متساويتين أو متفاضلتين، فإنه يجوز؛ لأن المفاضلة بينهما تجوز.
وإن شرطا المساواة فيهما، فإن كيلتا فخرجتا متساويتين.. صح البيع، وإن خرجتا متفاضلتين، فإن رضي من خرجت صبرته التي باع زائدة، بتسليم جميعها.. أقر العقد، ووجب على الآخر قبوله؛ لأنه ملكه بالعقد، وإن لم يرض بذلك، ولكن رضي من خرجت صبرته ناقصة، بأن يأخذ بإزاء صبرته من الزائدة.. أقر العقد. وإن تشاحّا.. فسخ العقد بينهما؛ لأن كل واحد منهما باع صبرته بجميع صبرة الآخر على التساوي، وقد تعذر ذلك، ففسخ العقد بينهما.

.[مسألة: اعتبار الكيل والميزان]

قد ذكرنا: أنه لا يجوز بيع الجنس الواحد بعضه ببعض إلا متماثلاً بالوزن فيما يوزن، وبالكيل فيما يكال، والاعتبار في ذلك فيما كان مكيلا أو موزونًا بمكة والمدينة ومخاليفهما في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المكيال مكيال أهل المدينة، والميزان ميزان أهل مكة».
قال أبو عبيد: وقد روي: «المكيال مكيال أهل مكة، والميزان ميزان أهل المدينة». والأول أشهر، ولم يرد: أنه لا مكيال إلا مكيال أهل مكة، ولا ميزان إلا ميزان أهل المدينة، وإنما أراد: أن الاعتبار بما يكال ويوزن بهما.
إذا ثبت هذا: فإن الذهب والورق موزونان، والأربعة الأعيان الأخرى: وهي الحنطة والشعير والملح والتمر مكيلة؛ لما روي في حديث عبادة بن الصامت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذهب بالذهب، وزنا بوزن، والفضة بالفضة، وزنا بوزن، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، كيلا بكيل». وهذا نص.
قال الشاشي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فإن كان الملح قطعا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يباع بعضه ببعض وزنًا، لأنه لا يمكن كيله.
والثاني: يسحق، ويباع بعضه ببعض كيلا، لأن أصله الكيل.
وأما غير هذه الأعيان المنصوص عليها في الربا: فنعتبر بعرف الحجاز فيها في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لما ذكرناه من الخبر، ولأنها مقر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ودار هجرته.
قال الشيخ أبو حامد: فأما ما حدث من المطعومات بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو ما كان منها على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يكن بأرض الحجاز.. ففيه وجهان:
أحدهما: يعتبر بأشبه الأشياء به في الحجاز في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن كان ما يشبهه مكيلا.. لم يجز بيع بعضه ببعض إلا كيلاً، وإن كان ما يشبهه موزونًا.. لم يجز بيع بعضه ببعض إلا وزنًا، كما قلنا في جزاء الصيد: يعتبر ما لم يحكم فيه الصحابة بأشبه الأشياء به مما حكمت به الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وكذلك ما استطابته العرب..
حل، وما استخبثته حرم.. وما أشكل.. رجع فيه إلى أشبه الأشياء به مما استطابته العرب أو مما استخبثته.
والثاني: يعتبر فيه عادة سائر البلاد، فإن كان مكيلا.. لم يبع إلا كيلا، وإن كان موزونًا.. لم يبع إلا وزنًا؛ لأن الشيء إذا لم يكن بد فيه من حد، وما لم يكن محدودًا في الشرع.. رجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم، كما قلنا في القبض وإحياء الموات والحرز. فإن اختلف البلاد في كيل ذلك الشيء ووزنه.. اعتبر حكم الغالب فيه. وإن كان مكيلا في بلاد، وموزونًا في بلاد، وليس بعضها بأكثر من بعض.. قال ابن الصباغ: فينبغي أن يعتبر ذلك الشيء بأشبه الأشياء به. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ هذا الوجه: أنه يعتبر عرف البلاد فيه.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فذكر في "المهذب": أنه يعتبر البلد الذي فيه البيع ولم يعتبر غيره.
وإن كان من المطعومات مما لا يكال ولا يوزن.
فإن قلنا بقوله القديم: (وأنه لا يحرم فيه الربا).. فلا كلام.
وإن قلنا بقوله الجديد: (وأنه يحرم فيه الربا)، فإن أراد بيع الجنس منه بجنس آخر.. جاز بيعه رطبًا ويابسًا، ولا يعتبر فيه كيلٌ ولا وزنٌ؛ لأن الفضل يجوز في بيعه. وإن أراد بيع الجنس منه بجنسه، فإن كان مما ييبس وتبقى منفعته يابسًا، كالخوخ والمشمش والتفاح الجاف وحب الرمان.. جاز بيع بعضه ببعض بعد الجفاف متماثلاً. وإن أراد بيع بعضه ببعض رطبًا.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن كل ما فيه الربا لا يجوز بيع بعضه ببعض رطبًا كالرُّطب.
والثاني: يجوز؛ لأن معظم منفعة هذه الأشياء في حال رطوبتها، فجاز بيع بعضها ببعض رطبا، كاللبن.
فإذا قلنا بهذا: فإن كان المبيع لا يمكن كيله، كالقثاء، والبطيخ، والخيار، وما أشبه ذلك.. بيع وزنًا؛ لأنه أخضر. وإن كان يمكنه كيله، مثل: التفاح، والخوخ الصغار، والتين، وحب الرمان.. ففيه وجهان:
أحدهما: يباع بعضه ببعض وزنًا؛ لأنه أخضر.
والثاني: يباع كيلا؛ لأن الأشياء الأربعة مكيلة، فكان ردّه إليها أولى.
قال الشيخ أبو حامد: والأول أصح.

.[مسألة: مد عجوة ودرهم]

كل جنس حرم فيه الربا، لا يجوز بيع بعضه ببعض، ومع أحدهما، أو معهما، جنس آخر من أموال الربا، أو من غير أموال الربا، كمد عجوة ـ وهو نوع من التمر ـ ودرهم بمدي عجوة، أو بدرهمين، أو كدرهم ومد عجوة بدرهم ومد عجوة، أو كثوب ودرهم بدرهمين، أو كدرهم وثوب بدرهم وثوب.
قال الطبري: إلا أن ينص في البيع، فيقول: المد بالمد، والدرهم بالدرهم.. فيصح.
وكذلك لا يصح بيع نوعين من أموال الربا مختلفي القيمة، بنوع من ذلك الجنس، كدرهم صحيح، ودرهم مكسور، بدرهمين صحيحين أو مكسورين، وكمد تمر برني ومد معقلي، وبمدين برنيين أو معقليين، وكذهب ذرة بيضاء وذهب ذرة حمراء، بذهبي ذرة بيضاء أو حمراء.
وقال أبو حنيفة: (يجوز البيع في الجميع ـ حتى قال ـ: لو باع قرطاسًا فيه درهم بمائة درهم.. صح)؛ لأن درهمًا من المائة يقابل الدرهم الذي في القرطاس، والقرطاس يقابل تسعة وتسعين درهمًا، وإن باع قرطاسًا فيه مائة درهم بمائة درهم.. لم يصح؟ لأن القرطاس لا يعرى عن ثمن، وإذا أخذ قسطًا من المائة.. كانت الدراهم التي في القرطاس مبيعة بأقل منها من المائة الأخرى، فلم يجز، وكذا عنده يجوز بيع نوعين من جنس مختلفي القيمة، بنوع منه متفقي القيمة، وبه قال بعض أصحابنا الخراسانيين في النوعين لا غير.
دليلنا: ما روي عن فضالة بن عبيد: انه قال: «أتى رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر بقلادة فيها ذهبٌ وخرزٌ، ابتاعها بسبعة دنانير أو بتسعة دنانير، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجوز ذلك حتى تميز بينه وبينه»، وفي رواية أخرى: أنه قال له: «لا يباع مثل ذلك حتى تفصل»، فقال الرجل: يا رسول الله، إنما أردت الحجارة، وفي رواية: إنما ابتعتها للحجارة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا، حتى يميز بينهما». فمنع من البيع حتى يميز، وأراد التمييز بالعقد، ولم يسأل: هل الذهب الذي في القلادة يساوي الدنانير، أو أكثر؟ فدلّ على أن الحكم يختلف.
ولأن العقد إذا جمع عوضين.. فإن الثمن ينقسم عليهما على قدر قيمتها، بدليل: أن من اشترى سيفًا وشقصًا.. فإن الثمن ينقسم عليهما على قدر قيمتهما.
وإن باع درهمًا صحيحًا ودرهمًا مكسورًا، بدرهمين صحيحين أو مكسورين.. فإن الصحيح يأخذ من الصحيحين، أو من المكسورين أكثر من النصف؛ لأن قيمته أكثر من قيمة المكسورين، فيؤدي إلى الربا.
وإن باع سيفًا محلّى بفضة، بفضة، أو سيفا محلّى بذهب وفضة، بذهب أو بفضة، أو بذهب وفضة.. لم يجز؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها.
وإن باع سيفا محلى بفضة بذهب، أو سيفا محلى بذهب بفضة.. فقد جمع بيعًا وصرفًا، وفيه قولان مضى توجيههما.
واختلف لم سمي الصرف صرفا، فقيل: لصرفه عن حكم أكثر أحكام البيع. وقيل: لصرف المسامحة عنه في الزيادة في الجنس والتأخير. وقيل: لأن الشرع أوجب على كل واحد منهما مصارفة صاحبه، أي: مقايضته، فلا يزيد في الجنس الواحد، ولا يؤخره.

.[مسألة: بيع حنطة خالصة بغير خالصة]

ولا يجوز بيع حنطة خالصة، بحنطة فيها شعير أو زؤان: وهو حب أصفر حاد الطرفين، هكذا ذكره الشيخ أبو حامد في "التعليق". وقال ابن الصباغ: هو حب دقيق الطرفين غليظ الوسط أسود. وكذلك لا يجوز إذا كان في الحنطة شيلم: وهو حبٌّ أحد طرفيه حادٌّ والآخر غليظ، أو كان فيه عقد التبن، لأن ذلك يأخذ حظًّا من الكيل، فتكون الحنطة مبيعة بأقل منها كيلا، فلم يجز.
وهكذا: إذا كان في كل حنطة شعير أو زؤان أو شيلم أو عقد التبن.. فلا يصح بيع إحداهما بالأخرى؛ لأنه لا يعلم التماثل بين الحنطتين. فإن كان في إحدى الحنطتين ترابٌ دقيقٌ يسيرٌ، أو دقاق التبن اليسير.. صح بيع إحداهما بالأخرى.
قال المسعودي [في "الإبانة" ق\220] وهكذا: لو باع الحنطة بالشعير، وفي الشعير حنيطاتٌ.. صحّ؛ لأن ذلك لا يأخذ حظًّا من الكيل. فأما إذا باع شيئًا موزونًا من أموال الربا بجنسه، وفيهما، أو في أحدهما شيء من التراب اليسير.. لم يصح؛ لأنه يأخذ حظًّا من الوزن.

.[فرع: بيع العسل ببعضه وفيه شمع]

وأما إذا باع عسل النحل بعضه ببعض، وفيهما، أو في أحدهما شمع.. لم يصح البيع؛ لأن ذلك يؤدي إلى التفاضل بين العسلين.. فلم يصح.
فإن قيل: فكيف جوّزتم بيع التمر بالتمر وفيهما النوى؟
قلنا: الفرق بينهما أن بقاء النوى في التمر من مصلحته، فلم يكلّف إزالته، لذلك فصح بيعه فيه، بخلاف الشمع، فإنه لا مصلحة للعسل في بقائه فيه، بل ربما كان سببًا لنقصه؛ ولأن الشمع مقصود مع العسل، ولا يجوز بيع ما فيه الربا بجنسه، ومعهما أو مع أحدهما شيء مقصود، بخلاف النوى، فإنه غير مقصود.

.[مسألة: بيع الرطب بالمجفف]

وما يحرم فيه الربا من الثمار والحبوب.. لا يجوز بيع رطبه بيابسه على الأرض، كبيع الرطب بالتمر، وبيع الزبيب بالعنب، وبه قال سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وسعيد بن المسيب، ومالك، والليث، وأحمد، ومحمد، وإسحاق، وأبو يوسف رحمة الله عليهم.
وقال أبو حنيفة: (يجوز بيع الرطب بالتمر على وجه الأرض كيلا، ويجوز بيع العنب بالزبيب، وبيع الحنطة الجافة بالمبلولة، وبيع كل فاكهة يابسة بالرطب منها). ووافقه أبو يوسف، ومحمد في الحنطة المبلولة بالجافة.
دليلنا: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمر بالتمر كيلا، وعن بيع الكرم بالزبيب كيلا، وعن بيع الطعام بالزرع كيلا». والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
وروى سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قال «سُئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الرطب بالتمر، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أينقص الرطب إذا يبس؟» فقالوا: نعم، فقال: «فلا إذن»، وفي رواية: فنهى عن ذلك».
قال الشيخ أبو حامد: ولم يسأل عن نقصانه؛ لأنه لم يعلم ذلك؛ لأن ذلك يعلم بالحس، ويشترك كل واحد بعلمه، وإنما سأل عن ذلك؛ ليبين أنه إنما منع من ذلك؛ لأجل أنه ينقص فيما بعد؛ لئلا يظن ظان أنه نهى عن ذلك لغير هذه العلة، ولأنه جنس فيه الربا بيع منه ما هو على هيئة الادخار، بما هو منه على غير هيئة
الادِّخار على وجه يتفاضلان في حال الادخار، فوجب أن لا يجوز أصله بيع الحِنطة بدقيقها، أو بالحنطة المقليَّة.
وقولنا: (على وجهٍ يتفاضلان في حال الادخار) احترازٌ من العرية؛ لأنهما على صفةٍ لا يتفاضلان في حال الادخار، وذلك: أن الرُّطب على النخل يخرص، فينظر: كم هو؟ ثم ينقص منه ما ينقص في حال الجفاف، ثم يباع بمثل ذلك تمرًا.

.[فرع: بيع رطب برطب]

وأمَّا بيع رطبة برطبة، فإن كان مما يدخر يابسه، كالرطب والعنب.. فلا يجوز بيع رطبه برطبه.
وقال مالكٌ، وأبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، وأبو يوسف، والمزني: (يجوز، كما يجوز بيع اللبن باللبن).
دليلنا: ما ذكرناه من حديث سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: «أينقص الرطب إذا يبس؟»، فقالوا: نعم، قال: «فلا إذن».
فجعل العلة: أن الرطب ينقص فيما بعد، وهذا المعنى موجودٌ في بيع الرطب بالرطب، ولأنهما على غير هيئة الادخار، ولا يُعلم تساويهما في حال الادخار، فلم يجز بيع أحدهما بالآخر، كالحنطة بدقيقها، ويخالف اللبن، فإن معظم منفعته في حال رطوبته، بخلاف الرطب؛ لأن كل شيء يصلح له الرطب فالتمر يصلح له.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولأن الرطب يجف بنفسه، فلهذا منع من بيعه إلا بعد الجفاف، وليس كذلك اللبن، فإنه لا يجف حتى يجفف، ويخلط به غيره).
فإن قيل: علة الخبر تنتقض بالتمر الحديث، بالتمر العتيق، فإن بيع أحدهما بالآخر يجوز وإن كان الحديث ينقص عن العتيق فيما بعد.
فالجواب: أن العلة المستنبطة لا يجوز تخصيصها عندنا بحالٍ. وإن من شرط صحتها عندنا أن تكون جارية، فلا توجد إلا ويوجد الحكم معها.
وأمّا العلة المنصوص عليها: فهل يجوز تخصيصها؟ فيه وجهان. وهذه علةٌ
منصوص عليها، فمن قال: يجوز تخصيصها.. قال: التمر الحديث مخصوص من هذه العلة، فلا يكون نقصًا لها؛ ولأن الدليل على صحة العلة المستنبطة: جريانها في الأصول، والدلالة على صحة العلة المنصوص عليها: الاسم، وكونها منصوصًا عليها.
ومن قال من أصحابنا: العلة المنصوصة لا يجوز تخصيصها أيضًا.. قال: لا يكون نقص التمر الحديث عن العتيق نقضًا لعلتنا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتبر النقصان في الرطب إلى حال التناهي، ولم يعتبر النقصان بعد ذلك، والحديث والعتيق متساويان في حال تناهيهما تمرًا، فلا يعتبر النقص بعد ذلك.
وإن كان مما لا يدخر يابسها، كالرمان، والسفرجل، والبقول، والكُرَّاث، والبصل، إذا قلنا بقوله الجديد: (وأنه يحرم فيها الربا).. فهل يجوز بيع بعضها ببعض؟ فيه قولان، قد مضى ذكرهما:
أحدهما: يجوز؛ لأن معظم منفعتها في حال رطوبتها، فهي كاللبن.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه جنس فيه ربا.. فلم يجز بيع رطبه برطبه، كالرطب بالرطب، والعنب بالعنب.
وفي بيع الرطب الذي لا يجيء منه تمر بعضه ببعض في حال رطوبته، وبيع العنب الذي لا يجيء منه زبيب بعضه ببعض في حال رطوبته، طريقان:
قال أكثر أصحابنا: لا يجوز بيع ذلك، قولاً واحدًا، كغالبه.
وقال أبو العباس: إنها على قولين، كالرمان والسفرجل، لأن معظم منفعتهما في حال رطوبتهما، فكانا كسائر الفواكه التي معظم منفعتها في حال رطوبتها.

.[فرع: بيع اللحم بجنسه]

وإذا أراد بيع اللحم بجنسه، وقلنا: اللحمان جنسٌ واحدٌ، فإن باعه بعد أن جف ويبس.. جاز؛ لأنه حالة ادخاره. فإن أراد بيع بعضه ببعض في حال رطوبته.. ففيه طريقان:
أحدهما قال أبو العباس: فيه قولان، كالفواكه الرطبة التي معظم منفعتها في حال رطوبتها.
وثانيهما قال أكثر أصحابنا: لا يجوز، قولاً واحدًا، وهو المنصوص؛ لأن معظم منفعة اللحم ليس في حال رطوبته؛ لأن كل شيء يصلح له اللحم الرطب الطري، صلح له اليابس، إلا أن لذته في حال رطوبته، كالرطب، فإن لذته في حال كونه رطبا.
إذا ثبت هذا: فإن باع اللحم بعضه ببعض، وفيهما، أو في أحدهما رطوبة يسيرة.. لم يجز، والفرق بينه وبين التمر ـ حيث جاز بيع بعضه ببعض وإن كان فيهما، أو أحدهما رطوبة ـ: أن اللحم لا يباع بعضه ببعض إلا وزنا، وقليل الرطوبة يؤثر في الوزن، بخلاف التمر، فإنه لا يباع بعضه ببعض إلا كيلا، والرطوبة اليسيرة فيه لا تؤثر في الكيل، ولأن الرطوبة اليسيرة في التمر لا تفسده، والرطوبة اليسيرة في اللحم تفسده في حال الادخار، فإن يبس اللحم، ثم أصابته نداوة.. لم يجز بيع بعضه ببعض حتى يجف ثانيًا؛ لما ذكرنا: أنه يتناقص في الوزن بعد ذلك، وهل يجوز بيع اللحم بعضه ببعض قبل نزع العظم؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز، كما يجوز بيع التمر بالتمر، وفيهما النوى.
والثاني: لا يجوز، كما لا يجوز بيع العسل بالعسل، وفيهما الشمع.

.[مسألة: بيع العرايا]

روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص في بيع العرايا». فهذا الخبر تلقته الأمة بالقبول، واختلفوا في تأويله:
فعندنا: أن العرية: هو أن يشتري القفيزَ الرُّطَبَ على رؤوس النخل بالتمر على الأرض، وكيفية ذلك: أن يحزِر الخارصُ ما على النخلة من الرطب، وكم يجيء من ذلك الرطب من التمر إذا جف، فيباع بمثله من التمر، ولا يتفرقا إلا بعد القبض. فالقبض في التمر: الكيل والتحويل، وفي الرطب على النخل: التخلية بين النخلة وبين مشتري الرطب. هذا مذهبنا.
وقال مالك: (العرية: هو أن يهب الرجل لآخر نخلة، فتلزمه الهبة عنده بالعقد من غير قبض، فإذا ملك الموهوب له هذه النخلة وأثمرت، أو كان وهبه ثمرة النخلة لا غير، ثم شق على الواهب دخول الموهوب له إلى حائط الواهب، لأجل نخلته لا سيما بالحجاز، فإن عادتهم ينتقلون بأهاليهم إلى البساتين.. فيجوز للواهب أن يشتري من الموهوب له ما على تلك النخلة من الرطب بما يجيء منه من التمر، ولا يجوز ذلك لغيرهما).
وقال أبو حنيفة: (العرية: هو أن يهب صاحب البستان ثمرة نخلة بعينها من رجل، ولم يقبضها الموهوب له، فإن الهبة لا تلزم عنده وعندنا إلا بالقبض، فيكره هذا الواهب أن يرجع في هبته، ويخاف ضرر المشاركة إن أقبضه فيقول الواهب للموهوب له: أعطيك بدل هذه الثمرة تمرًا، فسمي هذا: بيعًا على وجه المجاز).
دليلنا: ما روى سهل بن أبي حثمة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع التمر بالتمر، إلا أنه أرخص في العرايا أن تباع الثمر بخرصها تمرًا، يأكلها أهلها رطبًا».
وروى الشافعي، عن مالك رحمهما الله، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان مولى لأبي أحمد، عن أبي هريرة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق، أو في خمسة أوسق» الشك من داود.
والاستدلال على مالك: أنه لم يفرق بين الواهب وغيره.
وعلى أبي حنيفة: قوله: «نهى عن بيع التمر بالتمر، إلا أنه أرخص في العرايا». والاستثناء يكون من جنس المستثنى منه، فلما كان المستثنى منه بيعًا، وهو بيع التمر بالتمر.. وجب أن يكون المستثنى بيعًا. وعنده: (أنه ليس ببيع).
وكذلك: قوله: «أرخص في بيع العرايا أن تباع بخرصها تمرًا»، وعنده: (لا يجوز بيع الرطب خرصًا بالتمر بحال).
فإن قيل: العرية في اللغة: هي اسم للعطية، يقال: أعراه كذا: إذا أعطاه، ولهذا قال الشاعر:
وليست بسنهاء ولا رجبية ** ولكن عرايا في السنين الجوائح

يقول: إنا نعريها الناس.. قلنا عن ذلك جوابان:
أحدهما: ما قال الأزهري: إن العرية: اسمٌ لنخلةٍ مفردةٍ، سواء كانت للبيع أو للأكل، أو للهبة، وعلى هذا يحمل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في العرية». وهي النخلة التي يفردها الخارص لرب الحائط ليأكل منها.
والثاني: ما قال بعض أهل اللغة: إن العرية: هي النخلة التي عليها ثمرةٌ أرطبت، سميت: عرية؛ لأن الناس يعرونها لتلتقط الثمرة منها، يقال: عريت الرجل: إذا قصدته لتستميحه. ومنه قول النابغة:
أتيتك عاريا خلقا ثيابي ** على عجل تظن بي الظنون

إذا ثبت هذا: فإن العرايا تصح للفقراء، بلا خلاف على المذهب، وهل تصح للأغنياء؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز، وهو اختيار المزني، وبه قال أحمد؛ لما روي عن محمود بن لبيد: «أنه قال: قلت لزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ما عراياكم هذه؟ فسمَّى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن الرطب يأتي، ولا نقد عندهم يبتاعون به رطبا يأكلونه مع الناس، وعندهم فضول من قوتهم من التمر، فرخص لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم، يأكلونها رطبا مع الناس».
والثاني: يجوز، وهو الصحيح؛ لما روى سهل بن أبي حثمة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع التمر بالتمر، إلا أنه أرخص في العرايا أن تباع بخرصها تمرًا، يأكلها أهلها رطبًا». ولم يفرق بين الأغنياء والفقراء، ولأن كل بيع جاز للفقراء.. جاز للأغنياء، كسائر المبيعات.
وأما حديث محمود بن لبيد: فلا حجة فيه أنه لا يجوز للأغنياء؛ لأن المحتاجين كانوا هم السبب، وأما الرخصة: فعامة، كما أن سبب الرمل في الاضطباع كان لإظهار الجلد للمشركين، ثم زال السبب والحكم باق.